الدماء العربية ومواقف إسبانيا المساندة للشعب الفلسطيني Arab Blood and Spain's Supportive Positions for the Palestinian People
بقلم الكاتب البحريني الأستاذ عبدالنبي عبدالله الشعلة
(نقلًا عن صحيفة البلاد البحرينية – 18 أغسطس
2024)
اتخذت إسبانيا مواقف
وتبنت سياسات مناصرة ومؤيدة للقضية الفلسطينية وشاجبة ومنددة للجرائم التي ترتكبها
إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وذلك في تباين وتناقض مع مواقف غالبية أقرانها من
دول المجموعة الأوروبية.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية
إن اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية في شهر مايو الماضي، وانضمامها إلى جنوب
أفريقيا في قضية “الإبادة الجماعية” المرفوعة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل
الدولية، وغيرها من المواقف المساندة للشعب الفلسطيني أدت إلى زيادة حدة توتر
العلاقات بين إسبانيا وإسرائيل؛ وهي علاقات لم تكن ودية أو حميمية في الأساس؛ فبعد
انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ التدهور في هذه العلاقات عندما عارضت إسرائيل
انضمام إسبانيا للأمم المتحدة بذريعة أن إسبانيا كان لها علاقات مميزة مع ألمانيا
النازية، كما أن إسبانيا رفضت الاعتراف بدولة إسرائيل ولم تُقِم علاقات دبلوماسية
معها إلا في العام 1986، أي بعد 38 عامًا من قيامها؛ مع أن إيران الدولة المسلمة
اعترفت بإسرائيل في العام 1950 لتكون ثاني دولة إسلامية تقوم بهذه الخطوة بعد
تركيا التي اعترفت بالدولة الصهيونية في العام 1949 أي بعد عام واحد فقط من قيامها.
روح عربية لدى الشعب
الإسباني
إن مواقف وسياسات إسبانيا تجاه القضية الفلسطينية، لا شك أنها مبنية على خلفيات
تاريخية، ومنطلقة من مصالح وطنية، إلى جانب قناعة إسبانيا بعدالة هذه القضية،
وبضرورة شجب تهور الإسرائيليين وتماديهم في انتهاك أبسط الحقوق المشروعة للشعب
الفلسطيني؛ هذه المواقف والسياسات ترتكز أيضًا على أسس أخلاقية، وتستند إلى
مرتكزات تراثية وعاطفية وتنبعث من جذور حضارية.
لقد كثّفتُ زياراتي لإسبانيا خلال العقدين الماضيين، وتجولت بين مختلف مدنها
ومعالمها، وقرأت وتتبعت قدر الإمكان ما تشهده من أحداث وتطورات، والتقيت بعدد ليس
قليلا من وجوهها ورجالاتها، وأستطيع أن أزعم بأنني قد تمكنت، إلى حد مقبول من
تكوين قاعدة ذهنية من المعطيات التي تمكنني من أن أجزم بأن السبب الرئيس وراء هذه
المواقف يكمن في حقيقة أن الروح العربية ظلت وما زالت عالقة في وجدان الشعب
الإسباني، وأن الدماء العربية ما تزال تسري في عروق الكثيرين منهم بعد أن حكم
العرب المسلمون إسبانيا لأكثر من 800 عام.
ديار العلم والثقافة والانفتاح
وقد تجلت مظاهر هذه الروح، أو صحوتها خلال العقود القليلة الماضية في الجهود التي
يبذلها الكثير من الإسبان لإطلاق مخزون الموروث العربي والوجود الأندلسي القابع في
نفوسهم... لقد وطأت الأقدام العربية الأراضي الإسبانية في العام 711م عندما توغلت
جحافل جرارة من الجنود المسلمين الفاتحين، وتوسعوا وانتشروا في أنحاء الأراضي
الإسبانية كافة حتى شمالها، مئات ومئات الآلاف منهم استقروا وتزاوجوا وتكاثروا على
مدى ثمانية قرون، وطيلة تلك القرون انتقلت أيضًا موجات تلتها موجات من العرب
النازحين إلى ديار العلم والثقافة والانفتاح؛ الديار الغنية الخضراء الجديدة؛ من
العلماء والمفكرين وطلبة العلم، ومن الأمويين وأتباعهم الفارين من بطش العباسيين،
وغيرهم؛ فامتزجت بذلك الدماء العربية والإسلامية بالإسبانية، بحيث لم يعد بالإمكان
فصلها بسهولة.
وقد تمكن الملك فرناندو والملكة إيزابيلا من استرجاع المدن الإسبانية الواحدة تلو
الأخرى من الحكام العرب إلى أن سقطت في أيديهم غرناطة آخر معاقل المسلمين سنة
1492م، منهيَين بذلك ثمانمائة سنة من الحكم العربي الإسلامي لبلاد الأندلس، ونتيجة
لهذا السقوط تعرض الكثير من سكان الأندلس للقتل أو الطرد والتهجير، لكن غالبية
العرب والمسلمين ظلوا متشبثين بهويتهم الوطنية الإسبانية واضطروا إلى التنصر، إلا
أن تنصر الكثير منهم كان تقية، وظلوا متمسكين خفية بدينهم الإسلامي لقرون عدة،
وكان يطلق على العرب والمسلمين المتنصرين “الموريسكيين”.
لقد تمكن الإسبان الفاتحون من القضاء على الحكم العربي الإسلامي لإسبانيا بشكل
قاطع، لكنهم لم يتمكنوا من القضاء على الروح العربية الإسلامية التي ظلت متأصلة
وعالقة في وجدان الكثيرين منهم، والتي بدأت تستيقظ خلال العقود القليلة الماضية في
عدة مظاهر؛ منها أنهم أصبحوا يقدرون ويتفاخرون بما تبقى من المعالم الإسلامية،
وصاروا يتباهون باسم ومكانة قصر الحمراء بغرناطة والمسجد الكبير بقرطبة، وغيرهما
من المعالم والقصور والقلاع التي شيدها العرب، واهتموا بترميمها وإعادة هيبتها،
فأصبحت تستقطب الملايين من السياح سنويًا وتدر على خزائنهم بلايين الدولارات كل
سنة.
ملامح تاريخية
ولم يعد الإسبان يتحسسون أو يتحرجون من تسمية جامع قرطبة بـ “المسجد” ولا يصرون
على تسميته بالكاتدرائية كما كان في السابق، ويعتزون بقمة جبل مولاي الحسن Mulhacen،
وهو من بين أعلى سلسلة جبال منتجع Sierra Nevada بغرناطة، الذي دفن على
قمته أبو الحسن علي أو مولاي الحسن أحد ملوك غرناطة في القرن الخامس عشر، وقد تمت
إزالة الحجر عن تعليم الحقبة الأندلسية في المؤسسات التعليمية، وزال الحرج والخوف
من الكشف عن الأسماء الحقيقية للأسر أو الأصول العربية التي ينتسبون إليها؛ وتبين
على سبيل المثال أن من 400 إلى 500 عائلة إسبانية على قيد الحياة الآن تنحدر من
سلالة بني أمية.
ونُصب في العاصمة الإسبانية مدريد في شهر مايو 2021 تمثال للخليفة عبدالرحمن بن معاوية أو عبدالرحمن الداخل، الأمير الأموي الذي هرب من الشام إلى بلاد الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، وأسس الدولة الأموية في الأندلس في العام 756م فأصبح هذا التمثال أحد المعالم التي تخلد ذكرى هذه الشخصية المهمة في التاريخ الإسباني؛ فلهذه الشخصية إسهامات بارزة في تاريخ وتراث إسبانيا، وكانت وراء انتقالها من العصور الوسطى في أوروبا إلى مركز متقدم للعلم والثقافة، ومن المفارقات اللافتة أن التمثال نصب في “ساحة الإمام علي”؛ وهي بدورها منطقة حديثة التطوير تقع في حي “فونتنكار” بالقرب من مركز مدريد.
تاريخ إسلامي مضيء
وجاء تطوير هذه الساحة كخطوة مهمة لتعزيز التفاهم الثقافي بين المعتقدات المختلفة
والاعتراف بالتاريخ الإسلامي وتأثيره في الثقافة الإسبانية وتشكيل الهوية
الإسبانية، وكمؤشر على تصالحها مع تاريخها الإسلامي أصدرت الحكومة الإسبانية في
العام 2022 طابعًا تذكارياً احتفاءً بالقائد المسلم الحاجب المنصور، محمد بن أبي
عامر رئيس وزراء الدولة الأموية في الأندلس وحاكمها الفعلي في عهد الخليفة هشام
الثاني، والحاجب المنصور كان قد خاض في الأندلس أكثر من 50 معركة انتصر فيها
جميعًا ومدد نتيجة لها حدود الدولة الإسلامية على الأراضي الإسبانية إلى أقصى شمال
الجزيرة الأيبيرية، وأصبحت شوارع بعض مدن إسبانيا تزدان بأسماء شخصيات عربية لها
إسهاماتها في تاريخ إسبانيا وحضارتها وثقافتها، منها شارع عبدالرحمن الداخل، وشارع
المنصور في مدريد، وشارع ابن رشد، وشارع ابن زيدون، وشارع وساحة المظفر في قرطبة،
وشارع المعتمد، وشارع ابن سينا، وساحة الحمراء في إشبيليا، وشارع ابن الخطيب،
وشارع الحمراء، وساحة الزهراء في غرناطة، وشارع ابن البيطار، وساحة ابن فرناس في
ملقة، وشارع الزهراء، وساحة طارق بن زياد في بلنسية، وشارع ابن عربي، وساحة ابن
رشد في مرسية، وشارع الزهراوي، وساحة القصر في طليطلة، وغيرها من الشوارع
والميادين والساحات التي تُذكّر الإسبان كل يوم بتاريخهم العربي الإسلامي المضيء.
وكما ذكرت في بداية
هذه الوقفة، فإنني خلال العقدين الماضيين التقيت وما أزال بعدد غير قليل من وجوه
ورجالات إسبانيا، ولم اتمكن حتى الآن من الإجابة على تساؤلات بعضهم عن الفائدة
التي جنتها بلادهم لقاء مواقفها الإيجابية تجاه القضايا العربية وحقوق الشعب
الفلسطيني، فإسبانيا لا تحظى بموقع متقدم في حجم التبادل التجاري مع العالم
العربي، ولا تأتي على قمة الدول التي تتوجه الاستثمارات العربية إليها، ولم تتطور
علاقاتها مع الدول العربية إلى المستوى الاستراتيجي، وغيرها من التساؤلات التي
سنحاول التطرق اليها في وقفة قادمة إن شاء الله.
Arab Blood and Spain's Supportive Positions
for the Palestinian People
By Bahraini writer Abdulnabi Abdullah
Al-Shoala
(quoted from albilad Bahraini dailtnewspaper
Al-Bilad - August 18, 2024)
Spain has taken positions and adopted
policies that support the Palestinian cause and condemn and denounce the crimes
committed by Israel against the Palestinian people, in contrast and
contradiction with the positions of the majority of its peers in the European
Union countries.
Recognition of the Palestinian State
Spain's recognition of the
Palestinian state last May, its joining South Africa in the
"genocide" case filed against Israel before the International Court
of Justice, and other positions supporting the Palestinian people have led to
an increase in the intensity of tension in relations between Spain and Israel;
relations that were not originally friendly or intimate; after the end of World
War II, these relations began to deteriorate when Israel opposed Spain's
joining the United Nations on the pretext that Spain had special relations with
Nazi Germany, and Spain refused to recognize the State of Israel and did not
establish diplomatic relations with it until 1986, i.e. 38 years after its
establishment; Although Iran, the Muslim country, recognized Israel in 1950,
becoming the second Islamic country to take this step after Turkey, which
recognized the Zionist state in 1949, just one year after its establishment.
Arab spirit among the Spanish people
Spain's positions and policies
towards the Palestinian issue are undoubtedly based on historical backgrounds
and stem from national interests, in addition to Spain's conviction of the
justice of this issue and the necessity of denouncing the recklessness of the
Israelis and their persistence in violating the most basic legitimate rights of
the Palestinian people; these positions and policies are also based on moral
foundations, and are based on heritage and emotional foundations and emanate
from civilizational roots.
I have intensified my visits to Spain
over the past two decades, toured its various cities and landmarks, read and
followed as much as possible the events and developments it is witnessing, and
met a not insignificant number of its figures and men. I can claim that I have
been able, to an acceptable extent, to form a mental base of data that enables
me to assert that the main reason behind these positions lies in the fact that
the Arab spirit has remained and continues to remain stuck in the conscience of
the Spanish people, and that Arab blood still flows in the veins of many of
them after the Arab Muslims ruled Spain for more than 800 years. The land of
knowledge, culture and openness
The manifestations of this spirit, or
its awakening, have been evident during the past few decades in the efforts
made by many Spaniards to release the Arab heritage and Andalusian presence
that is ingrained in their souls... Arab feet set foot on Spanish lands in the
year 711 AD when huge hordes of conquering Muslim soldiers penetrated,
expanding and spreading throughout all of Spain's lands, even to the north.
Hundreds and hundreds of thousands of them settled, intermarried and multiplied
over the course of eight centuries. Throughout those centuries, waves after
waves of displaced Arabs also moved to the land of knowledge, culture and
openness; the new rich green land; of scholars, thinkers and students of
knowledge, and of the Umayyads and their followers fleeing the brutality of the
Abbasids, and others; thus, Arab and Islamic blood was mixed with Spanish
blood, such that it was no longer possible to separate it easily. King
Ferdinand and Queen Isabella were able to recover Spanish cities one after the
other from the Arab rulers until Granada, the last stronghold of the Muslims,
fell into their hands in 1492 AD, thus ending eight hundred years of
Arab-Islamic rule over Andalusia. As a result of this fall, many of the
inhabitants of Andalusia were killed or expelled and displaced, but the
majority of Arabs and Muslims remained attached to their Spanish national
identity and were forced to convert to Christianity. However, the conversion of
many of them was a precaution, and they remained secretly attached to their
Islamic religion for several centuries. The Arabs and Muslims who converted to
Christianity were called “Moriscos.” The Spanish conquerors were able to
eliminate the Arab-Islamic rule over Spain decisively, but they were unable to
eliminate the Arab-Islamic spirit that remained rooted and stuck in the
conscience of many of them, and which began to awaken during the past few
decades in several manifestations; Among them is that they began to appreciate
and boast about what remained of the Islamic landmarks, and they began to boast
about the name and status of the Alhambra Palace in Granada and the Great
Mosque in Cordoba, and other landmarks, palaces and castles that the Arabs
built, and they were interested in restoring them and restoring their prestige,
so they began to attract millions of tourists annually and bring billions of
dollars into their coffers every year.
Historical Features
The Spaniards are no longer sensitive
or embarrassed to call the Mosque of Cordoba a “mosque” and do not insist on
calling it a cathedral as it was in the past. They are proud of the summit of
Mount Mulhacen, which is among the highest mountain ranges in the Sierra Nevada
resort in Granada, on whose summit Abu al-Hasan Ali or Moulay al-Hasan, one of
the kings of Granada in the fifteenth century, was buried. The ban on
Andalusian-era education in educational institutions has been removed, and the
embarrassment and fear of revealing the real names of families or the Arab
origins to which they belong has disappeared. It has been shown, for example,
that 400 to 500 Spanish families alive today are descended from the Umayyad
lineage. In May 2021, a statue of Caliph Abd al-Rahman ibn Muawiyah, or Abd
al-Rahman al-Dakhil, the Umayyad prince who fled from the Levant to Andalusia
after the fall of the Umayyad state and the rise of the Abbasid state, was
erected in the Spanish capital, Madrid. He founded the Umayyad state in
Andalusia in 756 AD. This statue has become one of the landmarks that
commemorate this important figure in Spanish history. This figure has made
significant contributions to the history and heritage of Spain, and was behind
its transition from the Middle Ages in Europe to an advanced center of science
and culture. One of the striking ironies is that the statue was erected in
“Imam Ali Square,” which is in turn a newly developed area located in the
“Fontincar” neighborhood near the center of Madrid. A Shining Islamic History
The development of this square came
as an important step to enhance cultural understanding between different
beliefs and to recognize Islamic history and its influence on Spanish culture
and the formation of Spanish identity. As an indication of its reconciliation
with its Islamic history, the Spanish government issued in 2022 a commemorative
stamp to celebrate the Muslim leader Al-Hajeb Al-Mansur, Muhammad ibn Abi Amir,
Prime Minister of the Umayyad state in Andalusia and its de facto ruler during
the reign of Caliph Hisham II. Al-Hajeb Al-Mansur had fought more than 50
battles in Andalusia, in which he was victorious and as a result extended the
borders of the Islamic state on Spanish territory to the far north of the
Iberian Peninsula. The streets of some Spanish cities are now adorned with the
names of Arab figures who have contributed to the history, civilization, and
culture of Spain, including Abd al-Rahman al-Dakhil Street, Al-Mansur Street in
Madrid, Ibn Rushd Street, Ibn Zaydoun Street, Al-Muzaffar Street and Square in
Cordoba, Al-Mu'tamid Street, Ibn Sina Street, Al-Hamra Square in Seville, Ibn
al-Khatib Street, Al-Hamra Street, and Al-Zahra Square in Granada, Ibn al-Bitar
Street, Ibn Firnas Square in Malaga, Zahra Street, Tariq ibn Ziyad Square in
Valencia, Ibn Arabi Street, Ibn Rushd Square in Murcia, Zahrawi Street, Al-Qasr
Square in Toledo, and other streets, squares and plazas that remind the
Spaniards every day of their bright Arab-Islamic history. As I mentioned at the
beginning of this stop, during the past two decades I have met and still meet a
significant number of Spanish figures and men, and I have not yet been able to
answer some of their questions about the benefits their country has gained in
exchange for its positive positions towards Arab issues and the rights of the
Palestinian people. Spain does not enjoy an advanced position in the volume of
trade exchange with the Arab world, nor does it rank among the countries to
which Arab investments are directed, and its relations with Arab countries have
not developed to a strategic level, and other questions that we will try to
address in an upcoming stop.
تعليقات
إرسال تعليق